قُتل السلطان "إبراهيم بن أحمد الأول" في (1085هـ = 1648م) بعد ثورة عارمة هزت أرجاء إستانبول، قام بها الجنود الإنكشارية، وكثيرا ما كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال حين يغضبون على وزير أو سلطان، ولم تكن هيبة السلاطين تردعهم بعد أن تولى على عرش الدولة العثمانية عدد من السلاطين من ذوي القدرات المحدودة والمواهب القليلة والعزائم الخائرة. وأٌجلس على عرش الدولة "محمد الرابع" الابن الأكبر للسلطان إبراهيم، وكان حدثا صغيرا لا يتجاوز السابعة من عمره فتولت جدته "كوسم مهبيكر" نيابةً السلطنة، وأصبح بيدها مقاليد أمور الدولة، وقد استمرت فترة نيابتها ثلاث سنوات، ساءت فيها أحوال الدولة، وسيطر أَغَوَات الإنكشارية على شئون الدولة، متجاوزين مؤسسات الدولة، غايتهم جمع المال والثروة دون نظر إلى مصالح الدولة العليا.
وبعد وفاة السلطانة الجدة في (1062هـ = 1651م) لم يكن عمر السلطان الصغير يسمح له بأن يتولى أمور الحكم، فقامت أمه "خديجة تارخان" بنيابة السلطنة، وكانت امرأة شابة راجحة العقل، ذات رأي وتدبير، شغلت نفسها بالبحث عن الأكْفَاء من الرجال ممن ينهضون بالدولة التي بدأ الضعف يدب في أوصالها، بعد أن تناوشتها الفتن والمؤامرات، وأحدقت بها الأخطار من كل جانب.
ووجدت السلطانة الأم ضالتها المنشودة في محمد باشا كوبريلي، وهو ألباني الأصل قوي الشكيمة وصاحب شخصية قوية، وقبْل أن يتولى المنصب اشترط أن يكون مطلق اليد في الضرب على أيدي أصحاب مراكز القوى في الدولة، وسحق المؤامرات التي قد يدبرها بعض أهل النفوذ، وقبلت نائبة السلطنة هذه الشروط، وكانت هذه أول مرة في التاريخ العثماني التي يضع فيها وزير شروطًا لقبوله منصب الصدارة.
دور عائلة كوبريلي
انتهت نيابة السلطانة الوالدة التي استمرت خمس سنوات، وتولى ابنها محمد الرابع شئون الحكم، وهو في الخامسة عشرة من عمره، وتوارت هي إلى الظل وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، ولم تتدخل في أمور الدولة والشئون السياسية وتفرغت لتربية ولديها سليمان وأحمد، وانصرفت إلى أعمال الخير، وفتحت بذلك لعائلة كوبريلي أن تقوم بدورها التاريخي الذي استمر سبعا وعشرين سنة، فأعادت هذه العائلة للدولة هيبتها كما كانت في عهد سليمان القانوني.
كان محمد باشا كوبريلي على كبر سنه قوي الشخصية والإرادة، عظيم الهمة، يميل إلى الشدة والترهيب فيما يتصل بأمن الدولة وسلطانها، فانتظمت أمور الدولة الداخلية، وضرب على أيدي الإنكشارية وأعادهم إلى احترام النظام والانشغال بعملهم، ومنعهم من التدخل فيما لا يعينهم من شئون السياسة.
وفي الوقت نفسه حقق للدولة بعض الانتصارات الخارجية، فهزم البنادقة وأخذ منهم جزيرة "لمنوس" وجزرا أخرى. وكان البنادقة قد استولوا على هذه الجزر واحتلوا مدخل مضيق الدردنيل، وفرضوا حصارًا بحريًا على الدولة، ومنعوا دخول المؤن والغذاء إلى إستانبول، ولولا نجاح كوبريلي في فك هذا الحصار لتعرضت الدولة إلى خطر فادح.
واستمرت صدارة محمد كوبريلي خمس سنوات أعاد في أثنائها الأمن والاستقرار للدولة، وتُوفي بعدها ودُفن في إستانبول عن ثلاثة وثمانين عاما في (1072هـ = 1661م).
أحمد باشا كوبريلي
قبل وفاة محمد باشا كوبريلي زاره السلطان محمد الرابع ليعوده، وفي هذه الزيارة زود السياسي المحنك السلطان الشاب بوصايا غالية، فنصحه بإبعاد نساء القصر عن التدخل في سياسة الدولة، وقد شاهد بنفسه ما حدث لأبيه من قبل من جراء تلك السياسة، وأوصاه باختيار صدر أعظم يملك القدرة والكفاءة على تصريف أمور الدولة وقيادة الجيوش وإدارة شئون الحرب، وما كان من السلطان إلا أن طلب منه ترشيح من يراه جديرًا بهذا المنصب الجليل؛ فأشار عليه بابنه "أحمد باشا كوبريلي"؛ ثقة منه في كفاءته وموهبته.
مولده ونشأته
ولد أحمد باشا كوبريلي في العاصمة إستانبول سنة (1045هـ = 1635م) وعُني أبوه بتربيته وتعليمه، وأعده ليكون أهلاً للمناصب الرفيعة، ولم يخيّب الولد رجاء أبيه وأمله، فكان ذكيًا موهوبًا، تخرّج في القسم العالي لمدرسة إستانبول.
واشتغل بالتدريس فترة، ثم انصرف إلى السياسة والإدارة، ترشحه مواهبه وإمكاناته العالية؛ فتولى إدارة "أرض روم" في جنوب شرق تركيا، فأحسن إدارتها وضبط أمورها، ثم انتقل في سنة (1071هـ = 1660م) واليًا على الشام، فأصلح أحوالها المختلة ونهض بمرافقها، وأحل الأمن والهدوء بها، ولم يمكث هناك طويلا فقد استلزم مرض أبيه الصدر الأعظم أن يكون بجواره، وأن يقوم عنه ببعض المهام، وكان الوالد يثق في ابنه وكفاءته فقد أعده لمثل هذا اليوم، وهيأه لجلائل الأعمال وعظائم الأمور؛ ولذلك لم يكن عجيبًا أن يأخذ السلطان محمد الرابع بنصيحة صدره الأعظم، وهو يرى ابنه الشاب يحل مكان أبيه المريض في إدارة شئون الدولة بكفاءة ومهارة عالية.
الصدر الأعظم
كان أحمد باشا كوبريلي أصغر من تولى الصدارة العظمى في تاريخ الدولة العثمانية، فلم يتجاوز عمره السادسة والعشرين، لكن هذا العمر الصغير كان مليئًا بالموهبة والنضج الذي يتجاوز السنين الطويلة ويعوض تجارب الأيام، فاتجه إلى الميدان الخارجي ورآه في حاجة إلى جهوده حتى يعيد للدولة هيبتها التي اهتزت بعد سليمان القانوني، وترك متابعة الأمور الداخلية إلى "قرة مصطفى باشا" يتولى أمرها وتدبير شئونها.
وبدأ صدارته بإعلان الدولة العثمانية الحرب على النمسا، وكانت قد انتهزت فرصة سوء الأحوال التي مرت بالعثمانيين، فنقضت معاهدة "سيتفا توروك" المبرمة بين الدولتين، وبنت قلعة حربية على الحدود بينهما، على الرغم من إخطار الدولة العثمانية لها بمخالفة ذلك لبنود المعاهدة.
سقوط قلعة نوهزل
تحرك كوبريلي من أدرنة، وبلغ المجر على رأس جيش كبير يبلغ نحو مائة وعشرين ألف جندي، مزودا بالمدافع والذخائر والمؤن المحملة على ستين ألف جمل وعشرة آلاف بغل، ودخل سلوفاكيا ضاربًا كل الاستحكامات العسكرية التي كانت في طريقه حتى وصل إلى قلعة "نوهزل" الشهيرة، وهي تقع شمال غرب "بودابست" على الشرق من "فيينا" بنحو 110 كم، ومن "براتسلافيا" بنحو 80 كم، وهذه القلعة بالغة التحصين فائقة الاستحكامات حتى عُدّت أقوى قلاع أوروبا.
بدأ الجيش العثماني في حصار القلعة في (13 من المحرم 1074هـ = 17 من أغسطس 1663م)، ودام الحصار سبعة وثلاثين يومًا، وهو ما اضطر قائد الحامية إلى طلب الاستسلام فوافق الصدر الأعظم، واشترط خروج الحامية دون سلاح أو ذخائر، فأخلوها في (25 من صفر 1074هـ = 28 من سبتمبر 1663م)، وكان لسقوط القلعة المحصنة دوي هائل في أوروبا، وبعدها استسلمت حوالي ثلاثين قلعة نمساوية.
قضى كوبريلي الشتاء في بلجراد، ثم تحرّك في الربيع في (11 من شوال 1074هـ = 7 من مايو 1664م)، مستكملاً فتوحاته التي ألقت الفزع في قلوب ملوك أوربا، ونجح في الاستيلاء على قلعة "يني" في "سرنوار" التي تقع في الجنوب الشرقي من فيينا، وهذه القلعة هي التي تسببت في المشكلة واشتعال الحرب بين الدولتين.
أدت هزائم النمساويين إلى طلب الصلح والعودة إلى المفاوضات؛ حقنًا للدماء وإيثارًا للسلامة، واتفق الفريقان إلى احترام بنود معاهدة "سيتفا توروك"، وأن تدفع النمسا غرامات حرب للدولة العثمانية قدرها 200 ألف سكة ذهب، وأن تبقى كافة القلاع بما في ذلك القلعة التي كانت موضع النزاع تحت سيادة العثمانيين، وبعد انتهاء تلك الحرب التي دامت سنة وأربعة أشهر عاد كوبريلي إلى أدرنه في (2 من رمضان 1075هـ = 17 من مارس 1665م).